خطر النفوذ الصيني المتنامي على الدول الجزرية
آخر مرة اهتم فيها معظم الأمريكيين بجزر سليمان كانت في منتصف الحرب العالمية الثانية، عندما شنت الولايات المتحدة واليابان معركة طويلة بحراً وجواً في المنطقة المحيطة بجوادالكانال. كان لهذه المعركة الطاحنة آثار استراتيجية هائلة، فقد أوقفت التقدم الياباني في جنوب المحيط الهادئ وتأكدت من عدم محاصرة القوات المعادية أو عزلها للدول الحليفة مثل أستراليا ونيوزيلندا عن الإمداد، مما أدى إلى عكس زخم الحرب في المحيط الهادئ، وتوفير قاعدة لشن هجوم مضاد ضد عدو مستبد. خلال ذلك توجه الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت إلى الجمهور الأمريكي، مشيراً إلى مئات الجزر الصغيرة المنتشرة عبر المحيط الهادئ، موضحاً أنها ربما “تبدو نقاطاً صغيرة على معظم الخرائط ليس إلا. . . ولكنها تغطي منطقة استراتيجية كبيرة “.
عانت تلك المنطقة الاستراتيجية الكبيرة، وهي منطلق القتال والنصر في الحرب العالمية الثانية، من إهمال كبير على مدى العقود العديدة الماضية حيث تركزت استراتيجية الولايات المتحدة وسياستها في مكان آخر. الآن الوضع مختلف ويجب أن يتغير. في أبريل/نيسان أعلنت حكومة جزر سليمان أنها وقعت اتفاقية أمنية مؤقتة مع الصين، وفي أواخر مايو/أيار سافر وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى المنطقة في محاولة لتأمين المزيد من الاتفاقيات من دول جزر المحيط الهادئ. احتوى الاتفاق الأمني لجزر سليمان على لغة غامضة وواسعة يبدو أنها تفتح الباب أمام الصين للعب دور في قمع الاضطرابات الداخلية في جزر سليمان من خلال السماح لبكين بنشر قوات الشرطة والجيش الصينية بناءً على طلب جزر سليمان “للحفاظ على النظام الاجتماعي.” يمكن أن تؤدي هذه الاتفاقية والصفقات المستقبلية المحتملة مع دول جزر المحيط الهادئ الأخرى إلى تقويض الأمن الإقليمي من خلال توسيع نطاق حركة الجيش الصيني ومنحه إمكانية الوصول إلى نقطة أشبه ما تكون بنقطة تفتيش بحرية مهمة، ودفع جزر المحيط الهادئ إلى خضم منافسة جيوسياسية عالمية.
هذا الاتفاق مع جزر سليمان وجهود الصين للتوصل إلى اتفاقيات مماثلة مع دول المحيط الهادئ الأخرى أطلق جراس الإنذار داخل وخارج المنطقة. فالصين بالتأكيد قادرة على توفير الاستثمارات التي تحتاجها المنطقة في تشييد البنية التحتية، لكن السكان المحليين قلقون لاعتقادهم الراسخ بأن الاستثمارات الصينية تدور حول تعزيز مصالح بكين وإفساد السياسات المحلية بقدر اهتمامها بتلبية الاحتياجات المحلية. وجزر سليمان هي المكان الأمثل لتبني هذا التوجه، حيث أعرب أكثر من 90 في المائة من السكان عن تفضيلهم انحياز بلدهم إلى الديمقراطيات الليبرالية بدلاً من الصين، وقال ما يقرب من 80 في المائة إنهم لا يريدون لبلدهم تلقي مساعدات مالية من الصين.
ومع ذلك، وجدت بكين في ماناسيه سوغافاري، رئيس وزراء جزر سليمان، شريكاً راغباً. إن قرار سوغافاري بالتوقيع على هذ الاتفاق لا يضعه في مواجهة مع العديد من مواطنيه فحسب، ولكن أيضاً مع مجتمع جزر المحيط الهادئ الأوسع نطاقاً والذي لا يميل إيجابياً إلى قوة استبدادية تنشئ قواعد عسكرية بينهم. وندد وزير خارجية نيوزيلندا بالاتفاقية ووصفها بأنها “غير مرحب بها وغير ضرورية”، بينما كتب رئيس ميكرونيزيا إلى سوغافاري أنه يخشى أن تجعل مثل هذه الصفقة جزر المحيط الهادئ “بؤرة لمواجهة مستقبلية”. كان رد الفعل في أستراليا هو الأكثر غضباً حيث شبه البعض الصفقة بأزمة الصواريخ الكوبية وزعم آخرون أنها أسوأ فشل في السياسة الخارجية الأسترالية منذ الحرب العالمية الثانية.
وينبغي أن يكون إعلان الاتفاقية الأمنية بين هونيارا وبكين، والضغط الدبلوماسي الصيني، بمثابة جرس إنذار للولايات المتحدة وحلفائها. لقد كان تعاملهم مع دول المنطقة قصيراً. وعلى واشنطن توسيع وجودها الدبلوماسي في جزر المحيط الهادئ ودعم التعددية في المنطقة ودعم مبادرات التنمية وأخذ المخاوف الوجودية التي تراود العديد من هذه البلدان بشأن تغير المناخ على محمل الجد. لابد من تغيير النهج بسرعة لمنع بكين من التمادي في تقويض الديمقراطية وتوسيع نطاق وجودها العسكري عبر المحيط الهادئ.
استراتيجية بكين في المحيط الهادئ
لم تأتِ الصفقة الأمنية بين الصين وجزر سليمان من فراغ. فقد عززت الصين وجودها ووسعت نفوذها عبر المحيط الهادئ على مدى العقد الماضي من خلال التودد إلى النخبة في المنطقة وبناء الروابط مع المؤسسات الإقليمية وزيادة مساعداتها واستثماراتها في جميع أنحاء المنطقة. وأثناء ذلك بحثت بكين عن عقارات ذات موقع استراتيجي تسمح لها بإبراز قوتها إلى الخارج وزيادة التأثير على سياسات منطقة المحيطين الهندي والهادئ الأوسع. ظهرت تقارير عن شركات صينية تسعى إلى تطوير موانئ المياه العميقة والمطارات في كيريباتي وبابوا غينيا الجديدة وساموا وجزر سليمان وفانواتو ومواقع أخرى عبر المحيط الهادئ.
على الرغم من تكرار الصين لادعاءاتها بعدم نيتها بإنشاء قاعدة عسكرية في جزر سليمان أو في أي مكان آخر في المنطقة فإن سجلها الحافل وطموحاتها تشير إلى العكس. ففي كمبوديا وجيبوتي وباكستان وسريلانكا بدأت الصين مشاريع بنية تحتية كبرى أدت إلى حصول الصين على إمكانية الوصول إلى مرافق الموانئ ذات الأهمية الاستراتيجية. وكما أظهرت بكين في بحر الصين الجنوبي عندما طالبت بالجزر غير المحتلة وعسكرتها لاحقاً، فإن للحكومة الصينية سجلاً حافلاً بإنكار نواياها الحقيقية علناً أثناء اتخاذ خطوات لتوسيع وجودها العسكري العالمي.
يمثل بحث بكين عن موطئ قدم عسكري في المحيط الهادئ توسعاً لما فعلته سابقاً في أماكن أخرى. فترسيخ وجودها في هذه المنطقة ربما يؤدي إلى تحقيق العديد من الأهداف الإستراتيجية في وقت واحد: تأمين خطوط الاتصال البحرية الصينية وزيادة جمع المعلومات الاستخبارية عن القوات المتحالفة وإبقاء أستراليا ونيوزيلندا محاصرتين وتعقيد أي خطط أمريكية لنقل القوات إلى المنطقة. وبهذه الصفقة فتحت جزر سليمان الآن الباب أمام وجود عسكري صيني في المحيط الهادئ. السؤال المطروح الآن على الولايات المتحدة وحلفائها هو كيفية الرد.
التركيز على هذه الجزر من جديد
دار نقاش حاد، خاصة في أستراليا، حول كيفية حدوث هذا الاتفاق بالذات، وما إذا كان بإمكان أستراليا أو الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى فعل المزيد لإحباطه. أصاب هذا عصباً حساساً خصوصاً للأستراليين حيث عملت كل حكومة في فترة ما بعد الحرب على منع قوة معادية من تحقيق وجود عسكري في جنوب المحيط الهادئ. وعلى الرغم من أن إجراء تحقيق في سبب حدوث ذلك قد يكون مفيداً إلا أنه لا وقت لإلقاء اللوم، بل استخدام هذه اللحظة للتركيز على كيفية توحيد جهود الولايات المتحدة وحلفائها لتقليل تداعيات الاتفاق ومنع الصين من توقيع غيره في مكان آخر.
لم يكن المحيط الهادئ في العقود الماضية مجال تركيز السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ويبدو أن هذا آخذ بالتغير، ولكن ما لم يوجه الاهتمام الجديد إلى محاولة حقيقية لتلبية احتياجات المنطقة، فمن غير المرجح أن تلقى ترحيباً كبيراً. فحكومات جزر المحيط الهادئ تشعر بالقلق حيال طبيعة الأنشطة الصينية في دول المحيط الهادئ، لكنها ليست مصدر قلقهم الأساسي. بدلاً من ذلك، يؤكد القادة الإقليميون على أهمية إيجاد طرق لدفع عجلة التنمية وبناء البنية التحتية اللازمة ومعالجة المخاطر الوجودية الناجمة عن تغير المناخ التي تتعرض لها الدول الجزرية في المحيط الهادئ خصوصاً المنخفضة منها. إن أسهل طريقة لكسب الثقة وأن تصبح شريكاً إقليمياً أفضل هي العمل مع دول جزر المحيط الهادئ، بشكل فردي وجماعي ومنتظم، لمعالجة هذه المخاوف والتي وضعها قادة جزر المحيط الهادئ في إعلان Boe لعام 2018 بشأن الأمن الإقليمي التي تبنت “مفهوم الأمن الموسع” للتعامل مع مجموعة من التحديات التي تواجه المحيط الهادئ.
سيتطلب القيام بذلك متابعة التزامات أقوى للتعويض عن تغير المناخ ومراقبة المياه الساحلية لجزر المحيط الهادئ عن كثب للحد من الصيد غير القانوني ومنع استغلال الموارد من قبل الصيادين الصينيين. بالإضافة إلى ذلك، يجب على الولايات المتحدة وشركائها تعزيز المزيد من أسواق العمل المفتوحة للسماح لسكان جزر المحيط الهادئ بالعمل في أي مكان آخر في المنطقة بناءً على احتياجات التوظيف ودعم المبادرات التعليمية لتقديم المزيد من الفرص لشباب جزر المحيط الهادئ لمتابعة التعليم في الخارج. وعلى الولايات المتحدة وشركائها الاستثمار في المشاريع التي تعمل على تحسين البنية التحتية الأساسية وتوسيع نطاق الوصول إلى الرعاية الصحية والاتصال بالإنترنت في جزر المحيط الهادئ. ويمكن للهيئات التشريعية في أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة وأماكن أخرى أيضاً إيجاد طرق للتعاون مع نظرائهم المنتخبين ديمقراطياً عبر جزر المحيط الهادئ لمناقشة سبل تحسين المساءلة الحكومية. كل هذه الالتزامات ستتطلب موارد أكبر من الولايات المتحدة وشركائها وتغييرات في التشريعات المحلية في بلدان متعددة للسماح بتوسيع تصاريح العمل ومشاركة أكثر استدامة مع المنطقة.
يمكن للولايات المتحدة أيضاً أن تجدد التزامها تجاه جزر المحيط الهادئ بإجراء بعض التغييرات البيروقراطية الرئيسية. ربما تخطط واشنطن لإعادة فتح السفارة الأمريكية في جزر سليمان التي أغلقتها في عام 1993، لكن إدارة بايدن لم تعين بعد سفراء إلى فيجي أو بابوا غينيا الجديدة. ليس لديها سفراء مقيمون في كيريباتي أو ناورو أو ساموا أو تونغا أو توفالو أو فانواتو (يمثلهم حاليًا السفراء الإقليميون للولايات المتحدة). من الصعب تقديم حجة للمشاركة الجادة والمستمرة مع مجتمع المحيط الهادئ دون وجود أمريكي نشط. بالإضافة إلى هذه المناصب، على واشنطن النظر في تسمية سفير في منتدى جزر المحيط الهادئ على غرار منصب سفير الولايات المتحدة لدى رابطة دول جنوب شرق آسيا. بالإضافة إلى ذلك، تحتاج واشنطن إلى تجديد اتفاقياتها الخاصة بالارتباط الحر مع ولايات ميكرونيزيا الموحدة وبالاو وجزر مارشال. سمحت هذه الصفقات على مدى عقود للولايات المتحدة بالحد من وصول الدول الأخرى عسكرياً إلى البلدان المدمجة في مقابل ضمانات سياسية وإنمائية ودفاعية أمريكية.
ويجب على الولايات المتحدة أيضاً دعم التعددية في المنطقة. يجب أن تلتزم واشنطن بحضور أكثر اتساقاً وعلواً بالمستوى كشريك في الحوار في القمة السنوية لمنتدى جزر المحيط الهادئ. وينبغي لها أن تعرب عن اهتمامها بالعضوية المنتسبة في المنتدى الخاص بإقليمين من جزر المحيط الهادئ الأمريكية – ساموا الأمريكية وغوام – وأن تعقد اجتماعاً منتظماً مع منتدى جزر المحيط الهادئ على غرار اجتماع اليابان الذي يعقد مرة كل سنتين مع قادة دول جزر المحيط الهادئ.
الالتزام تجاه المحيط الهادئ
بطبيعة الحال لا تعديلات السياسة طويلة المدى ولا التعديلات البيروقراطية على المدى القريب تعتبر رداً على التحدي الأقوى الذي يشكله تدفق الاستثمارات الصينية واحتمال وجود عسكري صيني في المنطقة. ولمعالجة الأمر الأول ينبغي على الشركاء الديمقراطيين دعم مبادرات مكافحة الفساد والشفافية وتمويل وسائل الإعلام المستقلة في جزر المحيط الهادئ. ولمعالجة الأمر الثاني ينبغي للجهود الدبلوماسية أن تعطي الأولوية لتقييد اتفاق بكين وهونيارا السري لضمان بقائه اتفاقاً نظرياً فقط. ولأن إنكار بكين غالباً ما يكون نذيراً بمزيد من النشاط، على واشنطن البدء بالعمل على تحذير القادة الإقليميين بشأن الشكل الذي سيبدو عليه الوجود العسكري الصيني في المحيط الهادئ ورد الولايات المتحدة على هذا الوجود. ستؤدي العسكرة الصينية في المنطقة إلى أضرار بيئية وتنازل دول جزر المحيط الهادئ عن سيادتها واستجابة حتميةً من جانب الولايات المتحدة وحلفائها مما قد يجر جزر المحيط الهادئ إلى صراع مستقبلي.
ما يحدث في جزر سليمان له تداعيات أمنية أوسع على المنطقة، فهو جزء من جهد منظم لبكين لتوسيع وجودها في المحيط الهادئ وتعزيز أدوات السيطرة الاستبدادية وتقويض وصول الولايات المتحدة إلى المنطقة وتقييد حرية حركة حلفاء الولايات المتحدة. وينبغي للتطورات الجارية في منطقة المحيط الهادئ أن تشدد على الأهمية الحاسمة للولايات المتحدة لإشراك العديد من البلدان التي كثيرا ما أُهملت في جزر المحيط الهادئ. كما يجب أن تكون بمثابة فرصة لتقييم فعالية سياسة الولايات المتحدة وحلفائها تجاه هذه المنطقة الحيوية وتشجيع واشنطن على أن تكون أكثر إبداعاً وأكثر استباقيةً وأكثر التزاماً تجاه المحيط الهادئ.
المصدر: اضغط هنا