صورة ذهنية.. هوية سياسية على طاولة البحث

صورة ذهنية.. هوية سياسية على طاولة البحث

اهتزت صورة الإسلام الشامي والأكثرية الثورية التي دعمت أو تحالفت أو شاركت أو صمتت عن الصعود الأخير للسلفية الجهادية والانتهاكات والمجازر التي نفذتها وما تزال حتى الآن بحق الأقلية العلوية. الأمر عالمي وليس بسيطًا وسيحتاج جهدا كبيرًا لتصحيحه.

تابع العالم عملية التطبيع مع هذه السلفية الجهادية بسيولة وميوعة وقبول أو شغف عصابي من قبل جمهور الأكثرية الثورية السنية في سوريا غير المفيدة. هذا السلوك والانزياح الجماهيري باتجاه هذا الموقف وخصوصا استمراره بكل بلادة بعد عمليات الإبادة الجماعية الممنهجة في الساحل السوري بحق الأقلية العلوية، مع ضحايا مسيحيين وسنة جرمهم أنهم مدوا يد العون؛ جعل دول الجوار السوري كالعراق ولبنان وإسرائيل والأردن تقلق بشكل جدي وتتخذ إجراءات أمنية عالية المستوى.

هذا الموقف الداعم والسائل والمبرر والإنكاري لهذه الحشود الداعمة للعهد الجهادي الجديد، حول ملف الإبادة الجماعية التي حصلت والانتهاكات الجارية من قبل سلطة دعموها، كان مفصليا أيضا عند دوائر صنع القرار الأمنية والمراكز الفكرية الغربية للتحرك وتقدير الأمور والدق على الإنذار. سيجري بحث الطرق ووسائل الضغط لتطويق انتشار هذا الفكر والنشاط كمرحلة أولى من سياسة أشمل للحرب على الإرهاب، في سياق متزامن مع ضرب الحوثيين ولاحقا عملاء إيران في العراق.

لقد ترافقت عمليات الإبادة الجماعية بحق الأقلية العلوية بالفخر أو الدعم المعنوي أو التهليل أو التمييع أو الإنكار أو التسخيف من قبل جمهور كبير على منصات التواصل الاجتماعي. كل هذا زاد من مخاوف الانتلجينسيا الغربية الفكرية والعسكرية والأمنية من تعاظم هذا التيار الجهادي، فيما لو بقيت هذه السلطة على نهجها الدعائي والإقصائي، وخصوصا مع انفتاحها على بيئات وجغرافيات جديدة مؤهلة للدعوة والتمكين وخلق نموذج إدلبي جديد. إن دولة مثل كندا على سبيل المثال أعادت تقييم الملفات للسوريين المقدمين إلى كندا عبر الطرق المختلفة ومثلها أستراليا، في حين الغرب الأوروبي يلهث ليعيد السوريين وما يعنيه من هم من خلفية سنية كما أعرب أحد الأحزاب السياسية الألمانية بصراحة.

فيما يبدو أنها مرحلة نفخ البالون، لكن لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء في ملف مكافحة الإرهاب. على صعيد دمشق، إن لقاءات هنا وهناك مع مسؤولين وعشاء مع ترامب أو زيارات منسقة ليست في سياق دعم واعتراف بل في سياقات أمنية. هناك ناقوس خطر دق دوليًا بصمت لمحاربة الإرهاب في سوريا.

إن الصين نفسها منخرطة في هذا الحلف لمحاربة الإرهاب وتتابع ملف الأيغور باهتمام بالغ، ودول آسيا الوسطى وضمنا باكستان. ما يراه العالم أنه قد يواجه خطر تنظيمات إسلامية جهادية تكفر طالبان نفسها ولا تختلف عن تنظيم خراسان، أو إسلامية إجرامية مرتزقة جاهزة للإجرام تحت أي اسم. هناك تفصيل دقيق وفق التنظيرات الحالية لأشكال هذه السلفية وبيئاتها بالنسبة لسوريا، بقي تحديد جغرافيا الحرب وتأطيرها.

لمن يريد أن يكون في المستقبل عليه أن يقرأ جيدا مصلحته على مستوى مناطقي وخصوصا على مستوى تعريف هويته المناطقية وضمنا السياسية العامة بعد كل هذا الاضطراب والاستلاب. ألا ينجرف إلى الطارئ والغريب وتأخذه مشاعر صادقة مستمرة بفرحة سقوط النظام إلى تأييد أعمى لنموذج حكم متخلف وتكفيري وشاذ عن المعتاد في بلاد الشامات كما سماها ياقوت الحموي.

نوستالجيا الهوية المهترئة

اليوم أصبح إعادة تعريف الهوية السياسية السورية، الوطنية، بالنسبة لشريحة من السوريين أمرا حاصلًا. ما أهمية دور المركز دمشق في صياغة هذه الهوية السياسية بالنسبة للفرد مع نفسه وبالنسبة للعالم الذي ينظر إليه. هل يستحق أو هل هناك ما يجبر هذا الفرد على قبول هذه الحمولة الهوياتية الدينية البعثية العروبية العقيمة بكل هذه الحمولة التاريخية الإشكالية. أليس سقوط النظام البعثي يعني أيضا أن يتحرر أفراد كثر من حمولة هوية مركبة زائدة عن الحاجة أو غير ذات صلة فعلا بالواقع وأكل الدهر عليها وشرب؟


يعاد استحضار محكية هوية من عفن التاريخ عبر فشلة ممن لا شيء لديهم إلا وهم هوية دينية وتاريخ قديم غير دقيق. إنه نوع من الهيجان الاورغزمي للفشلة الأحياء على هامش التاريخ والحضارة، ليس عندهم ما يتفاخرون به أو يخاطبون به الآخر إلا التفاخر وادعاء امتلاك الحقيقة وطريق الجنة ومعنى الحياة. كل هذا المركب المتهالك والممكن الحديث عنه مطولًا، يفترض أن يرفض أو يعاد دراسته والتوقف عنده. شخصيًا لطالما رفضت أن يكون الإطار الرئيس لهويتي السياسية منطلقًا من المركز بكل حمولته القومجية الدينية المهترئة.

الهوية السياسية الجامعة..؟!

أصبحت هذه الهوية كلوثة ومصدرًا للقلق، في كل مكان من هذا العالم. على سبيل المثال، في العراق هناك حالة من الاستغراب والدهشة حول ما حصل في سوريا وقبول الأكثرية السنية الثورية في سوريا غير المفيدة، بهذا النموذج والترحيب والتهليل له وكذلك في مصر وتونس والجزائر والمغرب وبقية دول العالم.
يُطالب العلويين برفض النظام البعثي وجرائمه وهذا ما فعلوه على مدار سنوات بقدر استطاعتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكنهم ليسوا معنيين أبدا بالاعتذار كمجموعة إثنية وككل، عن إرث شارك فيه كل من حمل جنسية سورية، أي أن يعتذروا بالإجماع كأنهم جناة. يَجِبُ ألاّ يقبلوا بعدالة انتقائية إطلاقًا كما يحدث الآن وكأن نظام البعث كان علويًا صرفا! لا يحق لطرف سوري سياسي أو ديني أن يطلب من أحد فردا أو جماعة أن ينكر أو يتبرأ أو يتخذ موقفًا من إجرام كأنه قاضٍ أو حكم ولم يكن موجودًا طيلة 55 عاما!. لذلك، الصمت والإضراب سلوكان سلميان للتعبير عن الموقف على أرض الواقع، وهناك الصوت في العوالم الافتراضية الذي قد يكون أكثر شجاعة بسبب التقييد الأمني من مجموعة الجولاني وجمهوره.


اعتقد أن اللَّوثَة الجديدة في دمشق لا تخص العلويين ولا الأقليات فهي نهج عقدي ليس صنيعة النظام البعثي وإن كان استُثمر فيه كما استَثمرت دول عدة بهذا الإسلام السياسي والمهاجر في بلادها أو عبر العالم. بدأ يشعر علويون أنهم ليسوا مطالبين أينما كانوا في العالم بالتعريف عن النفس بهوية مأزومة سياسيًا وثقافيًا، لتعني سوريا الانتماء السياسي الذي يتشاركه معك أمثال هذه المجموعة في السلطة وداعميها باعتبارهم دولة وأصحاب مشروع هوية أموية قومية جديدة مفروضة بالقسر ومصدرة إلى العالم كهوية دولة!

إن الهويات الإقليمية ستكون حلا مستقبلًا لهذا الموقف الذي سيتلمسه سوريون في مغترباتهم وسيبقى الأمر مدة طويلة. وهذا لا يعني أن المشتركات الوطنية بين الأقاليم تتراجع أو تلغى، لكن البناء الهوياتي سيعاد العمل عليه على أسس أخرى واقعية وصحية بين الأقاليم في إطار جامع مع بقاء الخصوصية الإقليمية وبعيدًا عن حفلات التكاذب الإيديولوجية البعثية أو الأممية.

سيبدأ سوريون ومنهم العلويين عندما يسألون عن جنسيتهم/بلدهم بتقديم هويتهم الإقليمية أو ثقافتهم الفرعية أو اعتقادهم الشخصي على هذه الهوية السياسية الحالية الجامعة التي لا تمثل مصدر اطمئنان وتصالح. ربما شعور بالخيبة، أو إدراك للخصوصية المحلية المستلبة لمصلحة مركز يحتكر كل شيء حتى الهوية السياسية التي يراد لها أن تكون بنسخة قومية أموية مستحدثة في طباق مع الطورانية ولا تعني كثيرًا لسكان جغرافيات سورية، وقطعا لم تعد تعني شيئا للعلويين.

سيفشل هذا الفجع الذي نشاهده بتعبئة الفراغ العروبي القومي البعثي بآخر ديني، جماعات ومع كل داعميها داخل سوريا غير المفيدة ستخفق في تأصيل الهوية الوطنية العابرة منفردة دون الآخرين، ولن تنفع القوة والسلطة بعد الآن.
أخيرًا، هويتي السياسية الوطنية معلقة واكتفي بهويتي الإقليمية هوية سياسية في التعريف عن نفسي عند الضرورة في الفضاء العام، مع العلم أنني لن أعود لتلك البلاد أبدا، ووطني فعليا ليس أبعد من حدود جسدي وعقلي ومن أحب، وكل أرض أعيش فيها ذكريات هي وطن. يبقى إقليم الساحل السوري بلدي والبيئة العلوية هي الحضن الإثنوثقافي الذي ترعرعت فيه ومنه خرجت إلى العالم.

مواضيع قد تهمك:

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x