من انفجار دمشق إلى انفجار الهوية: مشهد الداخل السوري المتشظي

بعد التفجير الذي ضرب كنيسة مار إلياس في دمشق وسقط إثره عشرات الضحايا المدنيين الأبرياء، تسرعت الأهداف النهائية عند صناع التاريخ الحقيقيين، وليسوا طبعا من هذا البلد المتخم بالكذب والتزوير. هذا الحدث لم يكن مجرد عمل إرهابي عابر نفذه عنصر في تشكيل ما يسمى الدولة الجديدة محسوب على تنظيم تكفيري سرا، بل كشف عن حقائق تختبئ منذ سنوات تحت وطن من قشور بلا أساسات.


أصبح الوضع في سوريا معقدا. هناك قوى إسلامية راديكالية جديدة تظهر وتريد إعادة رسم خريطة البلاد بطريقتها، بعضها بدأ يحسب الساحل على إدلب. في المدى المنظور لن تكون الجماعات الإسلامية المسلحة مجرد ميليشيات عابرة، بل ستتجه لتتحول إلى كيانات سياسية لها أذرع أمنية واجتماعية عابرة للجغرافيا الإقليمية داخل سوريا وضمن الإقليم الواحد، فليس العراق بأحسن حالا، فلا نجاة إلا بتوزيع جهود حل المشكلة من المركز على الأطراف.

في دمشق وحلب وإدلب حمص، هذا الخط من العاصمة الاموية الجديدة إلى الحضن الطوراني، هناك شرائح كبيرة من المجتمع المسلم السني المعتدل او المحافظ، وجدت في هذه الجماعات صوتًا يعبر عن تطلعاتها بعد هروب نظام الأسد البعثي. قد يكون هذا مفهوما في لحظة عاطفية وخوف من فراغ سياسي حيث الأسلم عدم الصدام، فالتعب عم الجميع والأمل أورد في الصدور رغم التشكك، وأيضا بعد سنوات من التهميش تحت حكم الأنظمة العسكرية. يبدو أن الكثيرين رأوا في هذا المسار فرصة لاستعادة دورهم في المشهد السياسي. يمكن تلمس بعض أوجه الصراع الخفي بين المدن ونخبها الاقتصادية والمجتمعية والدينية التقليدية، ضد كارتيل الريف الإسلامي الجديد المعاد صياغته بأدبيات صنعتها تيارات محافظة تقليدية في المدن من سلفية وإخونجية، لكن أين الأقليات من هذا الصراع الإسلامي الإسلامي بنسختيه السلفية الريفية/مدينية نازحة ونسخة مدينية تقليدية.

ماذا نرى عندما ننظر إلى مصير الأقليات في هذه المعادلة؟. كيف يمكن بناء مستقبل للجميع في ظل هذه التحولات الجذرية؟ السؤال الأصعب: هل يمكن تحقيق ذلك دون إراقة المزيد من الدماء؟

الواقع يقول إن الأمور تسير في اتجاه الفيدرالية، لكن هل هذا هو الحل الأمثل؟ أم أنه مجرد ترسيم للصراعات بدلاً من حلها؟ التاريخ سيحكم في النهاية، لكن الثمن يدفعه الآن أناس عاديون يريدون فقط العيش بسلام.
بدأت المشكلة الحقيقية من الداخل، فهناك فئة في المدن الكبيرة، الأقلية العلمانية من منبت سني، تعتبر نفسها امتداداً للحداثة في سوريا القرن العشرين. هذه الفئة، بالإضافة إلى التيار الأشعري التقليدي، وقف جزء منها فورا أو متأخرا ضد التيار الأموي الجديد الذي جاء مع السلطة بطريقة، وقفوا بطريقة غير بناءة بالرغم من درس دام 14 عاما. بدلاً من تقديم نقد مفيد او موقف معارض، اتخذت موقفاً سلبيا، وكأن صعود التيار الديني التكفيري الجديد لن يهدد وجودها.

هنا بالضبط حدث الانكسار الحقيقي لما كان يسمى بالشارع السني السوري. لم يكن سقوطه فقط بسبب تنظيم النصرة أو أفكار الجولاني المتعالية أو رفاقه أصحاب الكتب الرائقة والبدائع الفائقة، بل يتحمل المسؤولية أيضا الفئة المدنية التي أضعفت المجتمع السني من الداخل بخياراتها في عهد النظام الهارب وخياراتها في عهد الوارث، ثم لجأت إلى دمشق والدولة كملاذ أخير.

الفيدرالية بين الاعتراف والرفض: إعادة تعريف المواطنة والسلطة
الأمر مختلف عند الأقليات السورية. اعتقد أن العلويون والحديث عنهم بالنسبة إلي ليس بوصفهم جماعة دينية، بل جماعة لها خصوصية ثقافية وقومية، وغيرهم من المجموعات السكانية من خارج ما يسمى الأكثرية، لا يشعرون بأنهم جزء من هذا الصراع على السلطة. لا الدروز في السويداء، ولا الآشوريون والسريان والكورد في إقليم الجزيرة، ولا حتى العلويون في إقليم الساحل، مستعدون للمواجهة مع سلطة تمثل أغلبية سنية واضحة في مناطق سيطرتها المفترضة. يدرك الجميع أن الموازين قد تغيرت، ولا أحد يرغب في خوض معارك خاسرة.
تعيش اليوم الأقليات السورية واقعًا مختلفًا تمامًا. العلويون والدروز والكورد وغيرهم لم يعودوا يرون أنفسهم جزءًا من صراعات السلطة والمركز. الأمر ليس خوفًا أو ضعفًا، لكنه فهم عميق لتاريخ طويل من التنازلات التي لم تُجْدِ نفعًا.

في السويداء، الجزيرة، أو الساحل، لم يعد أحد مستعدًا لخوض معارك الآخرين. هناك الأكثرية الداعمة للسلطة الجديدة تتخذ مكانها، وهذا أمر واضح للجميع. لكن الأقليات وضمنا العلمانية من منبت البيئة السنية، لم تعد ترضى بدور الشريك الصامت أو الضحية المستعدة للتضحية دائمًا على مذابح الوطن المعرف على مقياس الأكثرية وخصوصا المدينية التي ستخوض صراعها وحيدة لتشارك في السلطة فهي لطالما كانت إلى جانب أي سلطة وصلت الى الحكم منذ خروج فرنسا الشنيع على الأقل شنيع بالنسبة إلي بخصوص الساحل السوري.

لقد تغيرت القناعات. الوطنية لم تعد تعني التنازل عن الحقوق. العيش المشترك لا يجب أن يكون على حساب الخصوصيات الثقافية والإدارية. يريد سكان الأطراف ضمانات حقيقية، ليس شعارات فارغة عن الدولة والتاريخ والعيش المشترك.
المطالب الآن واضحة: استفتاء على نظام الحكم، واللامركزية الإقليمية، وهذه ليست مطالب جديدة، لكنها أصبحت شروطًا أساسية لأي تعامل مستقبلي. يجب التحسب أن المرحلة السابقة من التنازلات المجانية انتهت، وعلى الجميع أن يدرك ذلك وأي مشاركة في هذه السلطة كديكور هو عمل يصعب تبريره.
الدولة الفيدرالية، الحل الأمثل للعيش المشترك في هذه السوريا. المشكلة الحالية تكمن في أننا أمام خيارين صعبين: إما سيطرة الأغلبية الإسلامية الجديدة على سوريا المفيدة، أو طريقة لضمان حقوق الادأقليات بمواطنة كاملة ولن تكون طبعا في ظل دولة مركزية وحتى باعتماد الإقليمية، سنرى نزوحا داخليا لأقاليم أخرى بعيدا عن سيطرة الجولاني في إقليم دمشق وحلب وادلب، أو هجرة إلى خارج البلاد. لذلك نرحب في الساحل السوري لمن لن يطيق صبرا على العيش في رحاب الأمة الاموطورانية.

ليست الفيدرالية الإقليمية مجرد حل مؤقت أو هروب من المشكلة. إنها نموذج متكامل يضمن حقوق الجميع. كل منطقة تستطيع أن تدير شؤونها، وتراعى الخصوصيات الثقافية ومصالح الجماعات السكانية ضمن الاقليم، وفي نفس الوقت نكون جميعًا جزءًا من دولة واحدة.

في هذا النظام، سكان الأقاليم لهم كامل الحق في تنظيم حياتهم السياسية كما يريدون. نفس الشيء ينطبق على أهالي السويداء والجزيرة والساحل. الفكرة الأساسية هنا هي المساواة الكاملة. لا يوجد طرف يفرض شروطه على الآخر، ولا أحد يشعر أنه أقل قيمة من غيره. وليس إقليم الساحل بحاجة لدورة وورشات عمل من جماعة الثورة مستمرة الفشلة من دمشق وغيرها ليعطوا الدروس باللامركزية والسلم الأهلي والتعايش، بينما يرحب سكان الإقليم بجهود هؤلاء في بيئاتهم المحلية. هذا النوع الرخيص من الدعاية التي يشتغل عليها منافقون يزورون الساحل، ممن وجد نفسه خارج السلطة الموعودة أو يريد اللحاق بها، أن يعود ليشرك العلويين في النفخ مجددا بنفس القربة.

الأمر ليس تقسيما جغرافيا. إنه اعتراف بحق كل مجموعة في الحفاظ على هويتها، مع الحفاظ على وحدة البلاد. الفيدرالية قد تكون الطريقة الوحيدة لإنهاء الصراع بين الرغبة في الوحدة والخوف من الذوبان.

في سوريا اليوم، الأقليات المختلفة – سواء العلويين أو الآشوريين أو الكورد أو الدروز – لم تعد ترضى بالمواطنة الشكلية أو التمثيل الصوري. لقد عانوا كثيرا على مر السنين، ولن يتخلوا عن حقوقهم مقابل وعود زائفة بالأمان تحت أنظمة طغيانية جديدة تستخدم نفس الأساليب القديمة.

الناس في دمشق ليس عليهم أن يشعروا بالذنب عن اختياراتهم، لكن عليهم أن يدركوا أنهم ليسوا السكان الوحيدين في هذا البلد. وفي المقابل، أبناء المناطق الأخرى مثل الساحل أو مناطق الفرات أو جبل العرب وحوران لهم كل الحق في المطالبة بحكم لامركزي يحفظ كرامتهم ويضمن لهم حريتهم وتنمية عادلة.

الوضع في سوريا بعد الحرب يحتاج إلى فهم جديد. من يريد التعايش الحقيقي يجب أن يعترف بالتنوع والتعدد. ومن يتحدث عن الشراكة عليه أن يقبل مبدأ المساواة والطريقة الوحيدة لتحقيقها عن طريق نظام حكم منطقي وعقلاني. أما من يخشى على وحدة سوريا، فالأولى به أن يتوقف عن محاولة فرض رؤيته كأنها الصورة الوحيدة للبلاد.

0
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x