اسمه ألكسندر دوجين. فيلسوف روسي وصوفي واستراتيجي سياسي وبوهيمي راديكالي وحجة في الجيوبوليتيك. رغم شهرته لكن قلة في الغرب يعرفون عنه الكثير. يصفه البعض بأنه عقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وغالباً ما يصوره الإعلام الغربي كشخصية راسبوتينية ذات قبضة مخيفة وخطيرة على النخبة السياسية والفكرية في روسيا.
قد يكون ضلوع دوجين بالاستراتيجية الجيوسياسية الحالية لروسيا في أوكرانيا صحيحاً إذ كُتب عنه كثيراً، إلا أن الذي لم يُسبر غوره هو المعتقدات الدينية والروحية المضمنة في فلسفته. ولكننا نراها من جهة في الديمومة والمذهب التقليدي الباطني للمفكر الفرنسي رينيه جينو التي تحاول توليف الماورائيات الشرقية مع الفلسفة الغربية، ومن جهة أخرى نراها عن طريق المسيحية الأرثوذكسية الروسية.
تهدف فلسفة دوجين السياسية إلى خلق عالم متعدد الأقطاب لا تكون فيه الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم. كما أنه يتصور “نظرية سياسية رابعة” لا رأسمالية ولا شيوعية ولا فاشية بل مجموعة جديدة تماماً تتبنى الجوانب الجيدة من الأنظمة الثلاثة. ولكن بخلاف معظم المنظرين السياسيين، فإن معتقداته مشبعة بالتأويلات الغامضة والصوفية. أولئك الذين لا يستوعبون معتقداته الروحية لن ينالوا من فلسفته إلا القشور.
أجريت مقابلة مع دوجين في شباط/فبراير، قبل أسابيع من الغزو الروسي لأوكرانيا، وسألته أن يشرح مسيحيته وكيف أثرت على فلسفته. هذا موضوع يثير اهتمامه جداً وظهر ذلك جلياً في رده.
أخبرني دوجين أن طريقه إلى المسيحية جاء في ثلاث مراحل مهمة. الأولى كانت معموديته عندما كان طفلاً بأمر من جدته الكبرى. لكنه لم يهتم كثيراً بالإيمان عندما نشأ في مجتمع الشيوعي ولأب ملحد.
جاءت المرحلة الثانية في سن الثامنة عشرة، عندما وقع في دائرة من المتطرفين الروس السريين العازمين على رفض الثوابت والأساطير الطوباوية للشيوعية. كانوا هم من قدم دوجين الشاب إلى العالم الغريب للمذهب التقليدي الباطني من خلال جينو (1886–1951) و يوليوس إيفولا (1898–1974)؛ قال إن تعاليمهم ملأت فراغه الروحي. تدعو التقاليد الباطنية إلى أن تعود جميع الحضارات والشعوب إلى روحانية نماذجها الثقافية التقليدية، فالروس مثلاً هم مسيحيون أرثوذكسيون بالفطرة. هكذا أخذ دوجين من جينو وإيفولا الأساس الذي انطلق منه لنقد الحداثة والغوص في المسيحية الأرثوذكسية الروسية.
قال دوجين إنه خلال أواخر الحقبة السوفيتية وفي السنوات الخمس الأولى من التسعينيات لم يستطع التوفيق بين “التقليد الحقيقي والمسيحية الفكرية” وإنه كان محبطاً من نظرة المؤمنين المسيحيين المعاصرين. وأخيراً خضع صاغراً للأرثوذكسية وانخرط مستسلماً في نظامها الديني من أجل الوصول إلى الأسرار.
أدى هذا الخضوع في النهاية إلى المرحلة الثالثة فانضم إلى فرع صغير من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية كانت لا تزال فيه جزءاً من بطريركية موسكو ومارست الطقوس القديمة حسب الطريقة السابقة على إصلاحات نيكون. جذبت الطقوس القديمة شهيته للتقاليد، وهي تشبه إلى حد ما الطريقة التي يفضل فيها ما بقي من الكاثوليك التقليديين طقس القربان والأنظمة السلوكية والأسرار المقدسة السابقة على المجمع الفاتيكاني الثاني. أوضح لي دوجين أنه يشعر بتشابه كبير بين عودته إلى الكنيسة وعودة القس الأمريكي التقليدي والأرثوذكسي سيرافيم روز (1934-1982) إلى الكنيسة، الذي عُمد كميثودي وتحول عن الإلحاد.
أوضح دوجين أنه اختار المسيحية الأرثوذكسية على الكاثوليكية والبروتستانتية لأنه يرى أن الكنيسة الأرثوذكسية متأصلة في أساطير روسيا وهي جزء من تقليد لا يستطيع الانفصال عنه. قاد هذا الرد إلى سؤال أعقد: كيف يوفق بين الاستبداد العقائدي للمسيحية والنهج المنفتح تجاه الأديان الشرقية الذي تتبعه التقاليد الباطنية والتي يمكن اعتبارها لا تفريقية بالنسبة للتوجه الأرثوذكسي؟
أجاب دوجين أن إيفولا وجينون علماه احترام الأديان المقدسة على اختلافها وليس مقارنة الاختلافات بينها، بل إظهار صحتها مقارنة بالحداثة. يقول دوجين إن كل شيء مناهض للحداثة جيد. رؤية التقاليد الدينية المختلفة في اتحاد مع هذا المبدأ تسمح له بالتوفيق بين التقاليد غير المسيحية وغير الأرثوذكسية. لكنه يناقض نفسه باعترافه بوجوب التسليم بتعاليم دينك المسيحي، بما في ذلك تأكيده خطأ المعتقدات الأخرى. أشار دوجين إلى تغلبه على هذه المعضلة بإيجاد قواسم مشتركة عالمية. وضرب مثلاً عن الكاثوليكي يعيش تقاليده الدينية بالكامل فمن الممكن أن يجد قواسم مشتركة مع الديانات التقليدية الأخرى في منهج التعارض مع الحداثة.
قال دوجين إن نهجه في نشر فلسفته عن مناهضة الليبرالية، والأوراسية لا يركز على المسيحية كأفكاره الأخرى. كان هدفه دائماً خلق لغة فلسفية قابلة للتكيف عالمياً مع جميع الأديان والثقافات والشعوب بغض النظر عن معتقداتها الدينية. للقيام بذلك يتوسل بفكرة جينو عن النضال الجماعي ضد العالم الحديث.
يرى دوجين أن المسيحية ديانة مقدسة كغيرها من الديانات الموجودة فيما يسميه “عصر نهاية الزمان وحلول الآخرة تاريخياً” وبالتالي لا ينبغي أن تقاتل ضد الأديان الأخرى بل ضد الحداثة. يجب استخدام جميع القوى “لمحاربة الواقع الغربي الحديث” الذي يعتقد دوجين أنه ليس فقط معادياً للمسيحية ولكن أيضاً، في جذوره، معادِ للتقاليد الغربية (أي لنفسه)، وبالتالي يهدد جميع النماذج الدينية.
بالسماح لدوجين بتوضيح أنه يتبنى نهجاً عالمياً واسعاً، أود أن أزعم أنه في الواقع يركز بشكل أكبر على المسيحية ودورها في محاربة الحداثة الغربية أكثر مما يرغب، لأسباب عملية، في إعلانه على الملأ. يعتمد دوجين بشدة على النظرة المسيحية للفكر التنبؤي، أي فكرة نهاية الزمان، ويعتقد أننا نعيش في عصر المسيح الدجال. هذه الفكرة مسيحية في الأساس ولهذا السبب يعبر دوجين بقوة عن فكرة الواجب المسيحي في محاربة الحداثة الغربية. من المهم أن نذكر هنا أنه يرى العدو على أنه الحداثة الغربية وليس الغرب نفسه ويرى المسيحية صاحبة الدور الأكبر في هزيمة هذا العدو.
يرى دوجين أن الحضارة المسيحية لم تعد موجودة. ويوضح أن هذا التفكك حدث على عدة مراحل. الأول كان الانشقاق الكبير عام 1053 للكنيسة جاء بفرعيها الشرقية والرومانية.
ثم جاءت الكنيسة الغربية لتصبح أكثر فردية وأعدت طريقاً لليبرالية. ويرى البعض، مثل آلان دي بينويست، أن المسيحية أدخلت خطر الفردية إلى الفكر الغربي من خلال عيب متأصل في مفهومها للخلاص الفردي للروح. يحرص دوجين هنا على التأكيد على معارضته وجهة النظر هذه. قال دوغين إنها على الرغم من تأكيدها على الخلاص الفردي فإن “المسيحية لم تدمر الروح الجماعية” كما رأينا في الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. بدلاً من تأسيس الديانة المسيحية، الليبرالية هي الانحراف.
اتبعت الكنيسة الرومانية الغربية في انحدارها إلى الليبرالية نمط الترويج للاسمية بواسطة ويليام أوف أوكهام والرهبان الفرنسيسكان في أواخر العصور الوسطى، وهو النمط الذي قال دوجين إنه خلق “أنثروبولوجيا ليبرالية بدائية ومجتمعاً ليبرالياً أولياً” وبلغ أوجه في البروتستانتية. أدت هذه البروتستانتية وأخلاقيات العمل الخاصة بها إلى الرأسمالية، كما وصفها ماكس فيبر في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” (1903)، وإلى ما أسماه دوجين إنشاء “مجتمع علماني شهواني بالكامل”. لقد دمر هذا المجتمع من وجهة نظر دوجين الدين وبشر بحالة تامة من الانحرافات ما بعد الثقافية وأصبح عالماً تكنولوجياً ما بعد الإنسان.
هنا اقترحت عليه سبباً للتفاؤل: من منظور إنجابي وديموغرافي يبدو أن العلمانية قد تتضاءل في النهاية لأن العائلات المتدينة لديها أطفال أكثر من الملحدين. ولكن دوجين رفض تفاؤلي واصفا إياه بأنه مثال للأمل الزائف الأنجلو ساكسوني في أن الأعداد الأكبر في حد ذاتها سوف تحل المشاكل الروحية. وقال بأنه يجب على المسيحيين التركيز بدلاً من ذلك على إنقاذ الأرواح.
يعتقد دوجين أن الغربيين تحديداً ملزمون بمحاربة المسيح الدجال – الحداثة – لأن الغرب هو الذي خلقها. يصف هذه المعركة بأنها حرب روحية “يجب ألا نبيع فيها أرواحنا للمسيح الدجال” لكننا على استعداد “للقتال حتى النهاية والموت من أجل الفوز مع المسيح”.
قال دوجين إن الاستعداد لمحاربة الحداثة أهم من احتمال النصر. الله “يؤيدنا” ويخلص الذين اختيروا في المعركة الروحية. يجب أن تكون هذه المعركة موجهة نحو ما أسماه جينو “مملكة الكمية” التي يرى دوجين أنها تظهر اليوم ف”الليبرالية وثقافة المثليين والذكاء الصناعي والبنوك والرأسمالية”.
من المؤكد أن تصريحات دوجين الدينية الجوهرية تستحضر أفكار نهاية الزمان. ومع ذلك، فهي في رأيي أوضح الأمثلة على قوة الإيمان المسيحي الذي يحرك فلسفته السياسية والروحية الراديكالية.
من هنا يرى دوجين أن النصر في هذه المعركة الروحية ضد الحداثة سيؤدي إلى “النظرية السياسية الرابعة”، والتي من شأنها أن تحل محل الأنظمة السياسية الثلاثة للحداثة: الفاشية والشيوعية والديمقراطية الليبرالية. ستفكك النظرية الرابعة كل هذه الأنظمة إلى عناصرها الإيجابية فقط، لتأخذها كل ثقافة كما يناسبها. لن تركز السياسة في هذا النظام على المادية الفردية أو الصراع الطبقي أو القومية بل على ما أسماه الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر Dasein، أو الكينونة الخصوصية.
لأن الولايات المتحدة تسيطر على قوة ساحقة في العالم الذي نعيش فيه في عالم أحادي القطب يعتقد دوجين بوجوب تفكيك هذه الهيمنة للسماح “بأقطاب” مختلفة من الحضارة العالمية. ومن الأمثلة على ذلك الأقطاب الإسلامية والأوراسية (الروسية) والصينية، حيث يجسد كل منها تقاليده الحضارية الخاصة. وهذه التعددية القطبية هي بديل للعولمة. وسيسمح بالتنوع الاجتماعي وينهي الاستبداد السياسي لصالح النسبية الثقافية.
يرى دوجين أن أوكرانيا تمثل الغرب الليبرالي. أتقن دوجين تجسيد هذه الرؤية بتأييده لرسالة كتبها الأوليغارشي المسيحي المتدين والمدير التنفيذي الإعلامي كونستانتين مالوفيف تصف دخول روسيا إلى دونباس بأنه “مرحلة جديدة في حياة روسيا الألفية”. يمضي مالوفيف في وصف كييف بأنها “واقعة في أسر قوى الجحيم”. بناءً على هذا التقييم، يصف الصراع بأنه وسيلة لاستعادة العدالة التاريخية في “أرض مقدسة لجميع الشعب الروسي”، وهو ما يعد حافزاً لـ “روسيا عظيمة جديدة”. بعد نشر هذه الرسالة، وجهت وزارة العدل الأمريكية اتهامات ضد مالوفيف لمحاولته، في انتهاك للعقوبات، إنشاء وسائل إعلام جديدة في عدة دول أوروبية. كما أصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي بياناً قال فيه إن مالوفيف “يواصل إدارة شبكة دعاية مؤيدة لبوتين ووصف مؤخراً الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا في عام 2022 بأنه “حرب مقدسة “.
توضح رسالة مالوفيف كيف ينظر الروس مثل دوجين إلى الصراع في أوكرانيا: حرب مقدسة تزيل الحداثة من المجال الأوراسي وتنهي ما وصفه غينو باسم كالي يوغا – المفهوم الهندوسي لعصر منحط من الفتنة والخطيئة. هذا هو الدافع الديني والروحي العميق وراء حملة روسيا في أوكرانيا الذي أغفله المحللون الغربيون بشكل خطير وأجبرهم على إساءة فهم الدوافع الروسية.
إلى الحد الذي يؤثر فيه دوغين على بوتين والقادة الروس، فإن هذا التأثير شديد التدين ويؤطر الأحداث على أنها معركة بين أيديولوجيات الحداثة وإيديولوجيات المذهب التقليدي. وسيكون لانتهاء هذا الصراع بلا شك عواقب لا يمكن تصورها على الدين والثقافة والجغرافيا السياسية لسنوات قادمة. تترك فلسفة دوجين بصماتها على العالم أمام أعيننا مباشرة.
المصدر: اضغط هنا