الفيدرالية الضمان الأمني الوحيد في سوريا.. الوقائع تشهد وليس تنظيرا
تعليق
شهدنا اليوم موقفا علنيا خطيرا تمثل في تصريحات تهديدية علنية باجتياح الساحل السوري، صادرة عن تجمعات مسيراتية في إدلب داعمة لحكام دمشق الجدد. دعوة اختصرت بجملة بعد شرح مستفيض لماذا يتأجل الساطور ومن يردعه وتقول الجملة التي أصبحت ترند الآن: جيش يبدأ في القرداحة ولاينتهي في إدلب. جاءت هذه الدعوة رداً على مطالب سلمية قدمها العلويون تبدأ من وقف الخطف وإخراج المعتقلين من الجنود والعساكر، وصولا للمطالبة بإقرار نظام فيدرالي في البلاد السورية. على أية حال، فإن هذه التطورات ليست مجرد سجال سياسي عابر، بل منعطف حاسم آخر يؤكد ألا إمكانية لترميم “العقد الاجتماعي” ضمن هيكل دولة مركزية بسيطة، ويؤكد أن الفيدرالية لم تعد خيارا سياسيا، بل ضرورة وجودية وأمنية ولن بتناول العلويين عنها.
ما نعيشه الآن “معضلة أمنية”، وفي هذا الإطار تفسر خطوة أي طرف لتعزيز أمنه، المطالبة بالفيدرالية، بالنسبة للعلويين في إقليم الساحل على أنها تهديد وجودي للطرف الآخر (تيار إدلب- وتيار المركز) مما يستدعي ردا عنيفا. المفارقة هنا أن التهديدات الصادرة من إدلب بـ”جيش يبدأ في القرداحة ولا ينتهي في إدلب” تقدم دليلا جديدا على صحة مخاوف الشعوب الأصلية ( الأقليات) المطالبة بالضمانات الدستورية في ظل دولة فيدرالية.
عندما يقابل مطلب دستوري بتهديد عسكري مباشر بالإبادة، يصبح التعايش تحت مظلة سلطة مركزية تملك هذا “الجيش” إذا صحت تسميته كذلك، أو تدعمه، بمثابة انتحار طوعي. هذه الدينامية تعيد إلى الأذهان حالة الكورد في العراق بعد 2003؛ فتمسكهم بالفيدرالية لم ينبع من رغبتهم بالاستحواذ على جزء من مقدرات النفط والغاز في كركوك كما يدعي معارضيهم في بغداد، بل رد فعل على تاريخ من الإبادة الجماعية، وعليه، أصبحت الفيدرالية خيارهم “الصفري” للبقاء. في سوريا اليوم تتراكم الحجج والمبررات للمطالبين بالفيدرالية مع ما نشاهده من نشح ينشر في الميديا، لتتحول الفيدرالية من مطلب تفاوضي إلى طوق نجاة وجودي غير قابل للتنازل بالنسبة للأطراف وللعلويين المتهمين بطمعهم بنفط وغاز المتوسط ومحاولة استيلائهم على أهم منطقة جغرافية في البلاد وهذه سنعود اليها في مادة أخرى.
عدالة مفقودة وفشل احتكار الدولة
يكشف الخطاب المتشنج عن خلل عميق في مفهوم الدولة لدى بعض التيارات الرافضة للفيدرالية والتي يغلب عليها الطابع الإسلامي، وأكثرها نفوذا وقوة ومالا في المدن الكبرى والمتضخمة بهوية تحتاج إلى إعادة تقييم وتعريف. سمعنا على مدار أشهر، حتى مسيرات ادلب اليوم وحمص أيضا أنها مسيرة لله، وأخر تكس العلويين، بعبارات توحي بأن “العدالة” هي أداة انتقام بيد الأغلبية الدينية المذهبية.
بالحديث عن العدالة من طرف السلطة، أصبحت مادة للتهكم عند الأقليات. لم يعد الأمر منصفا الحديث عن تعزز القناعة بذلك عند الكتابة، وكأن الأقليات في طور الاستكشاف مع هذه السلطات وجمهورها، فالأمور انحسمت تماما بالنسبة للعلويين بعد مجازر الإبادة الجماعية والتطهير الإثني بحقهم في إقليم الساحل شرق قبرص وعدم محاسبة أحد من حكومة دمشق.
تُقدم الفيدرالية هنا حلا ضروريا في هذا السياق؛ عبر اللامركزية القضائية والأمنية، متيحة الفرصة لإقامة شرطة محلية ومحاكم تضمن العدالة الانتقالية. هذا النموذج يضمن عدم استخدام أجهزة الدولة المركزية كأداة للقمع الطائفي، وهو ذات المبدأ الذي طبق بنجاح في اتفاق دايتون في البوسنة والهرسك لإنهاء الحرب وضمان عدم تكرار التطهير العرقي عبر منح الأقاليم صلاحيات واسعة.
حجة أقبح من ذنب
غالباً ما يُصور مطلب الفيدرالية، من منظور السلطة المركزية، على أنه “تقسيم” أو “تفتيت للوطن”. لكن التجارب الدولية تحسم الجدل؛ فالدولة المركزية القسرية هي السبب المباشر للانفصال (كما حدث في السودان بعد عقود من المركزية القسرية)، بينما الفيدرالية تحافظ على وحدة الدول المتنوعة والممزقة عرقياً أو طائفياً.
في ظل بيئة التهديد الصريح المتمثل في حشود الله القادمة من إدلب او غيرها عبر نداء الفزعات البدوية او دعوات الجوامع، تعمل الفيدرالية كـصمام أمان يمنع “الاحتكاك المباشر”. إن إقرار حدود إدارية واضحة والاتفاق على مستوى الاستقلال السياسي عن المركز وتفويض السلطات الأمنية المحلية، يقلل بشكل كبير من نقاط التماس القابلة للاشتعال.
لم يعد الخيار في سوريا المفيدة بين “وحدة مركزية” و”فيدرالية”، بل أصبح بين “فيدرالية تُنظم الخلاف وتدير التنوع” و “حرب أهلية شاملة تؤدي حتماً إلى تقسيم واقعي” وقد ينتج عندئذ حلا أكثر ديمومة مستقبلا إذا استمر التصعيد على هذا المنوال وأدى إلى احتراب وعمليات انتقامية ونقول مجددا يا ليتها كانت قبلا.
سلطة دمشق تدفع للصراع
يعد خطأ استراتيجيا مطالبة الرئيس المؤقت لإقليم دمشق “أحمد الشرع” أبو محمد الجولاني سابقا، بمسيرات مضادة (Counter-mobilization) رداً على مطالب الفيدرالية من العلويين بدلاً من احتواء الأزمة والوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف ما يجعلنا نحتار أي مستشارين من بريطانيا وتركيا يخططون، حيث من المفترض أن يلعب هذا الرئيس في مراحل ما بعد الصراع دور “الحكم” لا “الخصم”، لكن ربما يعتقدون أن الحدود لن تستمر مئة سنة أخرى إلا بالدم.
هذه الدعوة لم تكتف بإسقاط حيادية مؤسسة الرئاسة في دولة المؤسسات التي تدعي سلطات دمشق العمل عليها ووفقها، بل منحت “الغطاء السياسي” للأصوات المتطرفة في إدلب لتصدر المشهد والمزاودة على الوطنية. وبذلك، بدلاً من عزل المتطرفين، دمجتهم السلطة في تيارها الرافض للمطالب، فأصبحت السلطة طرف في صراع طائفي وليست حكومة مسؤولة عن حماية جميع السوريين كم تتفتق حناجرهم على وسائل إعلامهم.
خلاصة
يمثل التهديد “بجيش من إدلب إلى القرداحة” مسمارا جديدا في نعش النظام المركزي السوري. التوجه نحو “فيدرالية جغرافية” تمنح الأقاليم، والحديث هنا عن إقليم الساحل، صلاحيات سياسية وأمنية وتشريعية واسعة هو الحل الوحيد الواقعي لبقاء هذه الشعوب في تفاعل معقول فينا بينها مستقبلا. هذا النموذج من شأنه أن يفرغ تهديدات المتطرفين من محتواها، إذ لن يكون هناك “جيش مركزي” طائفي الهوى قادر على اجتياح المناطق بحجة بسط الأمن.
إن استمرار الحكومة المؤقتة في شيطنة الفيدرالية، واستخدام الشارع المؤيد لها الذي يفرز العلويين وغيرهم من الأقليات بين شريف مع جماعة القاعدة واللا شريف المعارض لها وعلى هذا الأغلبية، بمنزلة أداة للترهيب لن ينهي المطالب. بل سيدفع المكونات المعرضة للتهديد نحو خيارات أكثر راديكالية، مثل طلب الحماية الدولية المباشرة أو الانفصال التام، بدلاً من القبول بالبقاء ضمن سوريا فيدرالية تضمن كرامتهم وأمنهم.