قطيعة مع سوريا القديمة.. أسباب نتوقف عندها (1)

قطيعة مع سوريا القديمة.. أسباب نتوقف عندها (1)

يبتعد ناشطون في الشأن العام السوري من منبت ثقافي واجتماعي علوي عن الانخراط بخطاب جاد ونقدي وتفاعلي باتجاه الفضاء السياسي في دمشق ومن يدور في فلكه، بعد عمليات الإبادة الجماعية التي وقعت على الأقلية العلوية بين 7-9 من شهر آذار الفائت وذهب ضحيتها الآلاف. السؤال المطروح في الأوساط السياسية والثقافية وعلى مستوى الجمهور النشيط عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ما الجدوى من الانخراط في فضاءات سياسية مقيدة بنفس القيود التي عهدناها في عهد نظام الأسد وأكثر خطورة بالنسبة لأقليات محددة كالعلويين؟ ولاسيما أن عمليات التصفية والتطهير العرقي ما تزال مستمرة منذ ثلاثة أشهر حتى الآن. ليست التجربة واعدة ومنتجة لصياغة أكثر تطورا من جبهة وطنية تقدمية على مقاس “السلطة” الجديدة في حين يرفض الجولاني وفصائله مشاركة أحد في إدارة البلاد.

ماذا يعني وما فائدة أن أ/تكتب نقدا جديا أو رسائل مناشدة ونصيحة لتلك الجماعة التي تحكم سوريا غير المفيدة؟ التراجيديا والمأساة المستمرة الآن تستوجب التهكم والتندر من “سلطة” أمر واقع يرأس عليها جهاديين مطلوبين دوليًا. لقد أخفقت هذه “السلطة” المؤقتة في كل الملفات، وتراخت بشكل مقصود بخصوص الملف الأمني في إقليم الساحل السوري. لن استشهد بشيء من التفصيل وليس إلا تهكما، وهذا استثناء لأن الأمر يتعلق بجرائم الإبادة التي حصلت وما تزال حتى الآن. هناك أغلبية علوية انطلقت بمراجعاتها على مسار القطيعة النهائية مع تاريخ سياسي مستقبلي يراد له أن يكرر الماضي على جميع المستويات وخصوصا شكل نظام الحكم المركزي الذي أصبح مرفوضا بأغلبية ساحقة من العلويين.

تثير مجموعة من المواد ذات الصلة بالحريات والحقوق الواردة في “الإعلان الدستوري” سخرية واسعة عند المهتمين بالشأن العام، ولا تؤخذ بجدية مطلقًا من قبل أغلبية في الأقلية العلوية قبل غيرهم. في المادة ٧، مادة ١٢، مادة ١٣، مادة١٧، مادة ١٨، مادة ١٩، مادة ٢٠، مادة ٢١، مادة ٢٢، مادة ٢٣، لأن الواقع المَعِيش نقيض خطاب إدارة الجولاني وجماعته والإعلان الدستوري الأخير. إن الثقة لم تعد موجودة هذا ما خلصنا إليه من خلال جولات استطلاعية مكثفة عبر وسائل التواصل المختلفة ضمنا مجموعات الواتساب والتلغرام وصفحات الفيسبوك ومجموعات النقاش والتواصل المباشر.

تشكّلت عند العلويين صورة ذهنية جديدة بالسرعة التي جرت بها المجازر الأخيرة في الساحل السوري مترافقة مع الحصار والاقتصادي والتمييز الديني والترهيب. صورة ذهنية مكثفة خليط من تراكم قصصي وتاريخاني هوياتي ومظلومية لن تشطب من الوجدان ويتم تناسيها بعد مجازر 7-9 آذار دون ضمانات مستدامة. لقد ثبت أن هذه الضمانات ليست بيد دمشق ولن تكون مع أية سلطة قادمة، على ما نرى في الواقع من عمليات خطف وتصفية وامتهان لكرامات الناس على الطرقات. أيضا، وعدم جدية مقصودة للتصرف وجبر الضرر والدفع باتجاه عدالة انتقالية طلبها الجميع بعيد هروب بشار وأركان نظامه. لقد ألزم نفسه كارتيل الفصائل الحاكم حاليًا وخصوصا أحمد الشرع وفق الإعلان الدستوري بحفظ السلم الأهلي، مادة ٣٢، في حين تستمر حملات التطهير الإثني والطائفي حتى 24 آذار تحت جسر أرزونة بين طرطوس وحمص وفي مناطق أخرى اليوم 30 آذار في بانياس وحمص حتى تاريخ نشر هذه المادة.

القطيعة جارية، وهي أسرع من أية جهود يسارية ذمية أو غيرها ومن جماعات انتهازية كانت مع سلطة الأسد يريدون استمرار حبل السرة الانقيادي. فماذا لدى هذه المجموعات المتغلبة ليقال عنه فنكتب؟! أكما يكتب الآن بصوابية وتزلف جمع ممن عارض الأسد أو الصامتين في عهده فيسوّقون ويلمّعون نموذجًا أكثر ديكتاتورية مضافة عليه فاشية دينية. هل نخترع معهم مباحث للتحليل كما يحللون بنية عقل هذه الفصائل الجهادية ومراجعاتها! أو نمارس نقدا وتفنيدا للأوراق التي تصدر عنها بجدية ورصانة كأنك أمام أوراق لويس-هاملتون. إن كلمات مثل، مواطن، مجتمع، ذكرت مرتين على مضض، وأخرى لم تذكر أبدا كالديمقراطية، الفرد، حق الفرد،مجتمع مدني.. الخ، فالحقوق والحريات جماعاتية طائفية، وبالطبع من البديهي أن تكون نواة المجتمع الأسرة، مادة ٢٠ وليس المواطن الفرد.

مكونات.. أهل ذمة

في دولة المكونات الطائفية في سوريا غير المفيدة، وردت في مقدمة “الإعلان الدستوري” المفردة، المكونات، أي نحن أمام دستور مبني على خطاب يقسم المجتمع على أساس مكونات طائفية دينية ومذهبية. يرأس على الدولة وفق دستور المكونات “المكون الأكبر” وكأنه متجانس دينيا كما يريد فريق الدعم الإقليمي قطر وتركيا بزعامة حزب العدالة والتنمية ووكلائهم في دمشق تقديم الأمر للعالم وسط صمت هذه الأكثرية. هذا الإعلان العتيد لا مكان فيه للفرد بصفة مواطن. على أية حال إنها لفظة غبية يستخدمها المخابيل والانتهازيين والشركاء بجرم الإنكار بإسفافٍ عبر منابر الدوغما الجديدة والقديمة، ولا قوة سياسية وحقوقية ومعنوية لها على الأرض.

إذًا، أنت ابن طائفة تعيش في ظل حكم دولة الإسلام الأموية المزعومة يا ليتها أموية. حتى المحاصصة الطائفية والتمثيل النسبي مرفوض فيما تبقى من مؤسسات “دولة” فاشلة أُريد لها أن تبدأ من الصفر على ما نشهده من تعيينات مناصبية وفصل تعسفي. الانطباع الموجود عند العلويين أن من بقي في وظيفته محظوظ إذ لا بديل متوفر عنه حاليًا، ولاسيما في قطاع التعليم والصحة وبعض التعيينات الإدارية التقنية. بل حتى المحاصصة على الطريقة اللبنانية قد تبدو ترفا. ففي لبنان فيه الحد الأدنى من الديمقراطية التوافقية والتوازنات وليس نموذجًا يحتذى على أية حال، فلك أن تتصور الواقع الحالي في سوريا غير المفيدة.

في سياقنا الجديد في سوريا غير المفيدة، إن الأقليات أهل ذمة ضمن الرعية، أو كفارًا مع تعليق تنفيذ حد الردة والتكفير وتفعيله عند الضرورة بحجج واهية سيقت طولا وعرضا في ورقة الإعلان الدستوري. هم ضمن الرعية، الناس، وهو أبعد ما يمكن أن يصلوا إليه بمصطلح يمكن أن تستخدمه هذه الجماعات في مقابل المجتمع، الذي كان هشا في السابق.

إن الحديث عن المواطنة وشرعة حقوق الإنسان مع/ لـ جماعات سلفية جهادية ما قبل دولاتية ترف وجهد في غير مكانه كما أسمع من مثقفين يساريين. ما يزال اليسار عمومًا وخصوصا العلوي خجولا من مواكبة تحولات الخطاب عند الجمهور العلوي، حجته الإحصاءات والأرقام غير الدقيقة وغياب مؤسسات إعلامية ومراكز سبر واستطلاع. لكن جهدًا إضافيًا في البحث عبر الميديا المختلفة ومجموعات التواصل المختلفة، يظهر تأخرهم عن تلمس جدية التحول في الرأي العام العلوي تحديدًا، وأن الرهان على الخوف وغياب الدعم لم يعد سببًا لهذا التحول الجذري نحو القطيعة مع دمشق وكل تصور سياسي مستقبلي تكون فيه مركزا.

وفي الأثناء، يبحث الموجودون في دمشق الآن باعتبارهم إدارة وحكومة مؤقتة عن تحقيق تآلف طائفي ومافيوي لبناء دولتها العتيدة، فهذا ما تستطيع فعله عندما تقصي الفاعليات السياسية وتهمش دورها. إن أفراد هذه الجماعة الدينية الراديكالية الجهادية التي تحظى بدعم وقبول أو سكوت من جمهور واسع لا تقدر على النظر إلى الآخر إلا بواسطة باراديغم طائفة محقة منصورة بالله- طوائف كافرة أو ذمية. يخسر السوريون بوجود هذه السلطة أو في الأقل بالطريقة التي تدير بها الجغرافيا التي تسيطر عليها. وبينما الجميع يدفع الأثمان بمقادير مختلفة وخسائر متفاوتة ومتشابهة في بعض الأحيان، بيد أن الإنسان ابن البيئة والثقافة العلوية يدفع ثمن التاريخ والصدفة البيولوجية وكل أخطاء الماضي الذي تشاركه مع الجميع.

لا يتعلق الأمر بفقر هذه الجماعات الجهادية الأممية- التي قدمت مراجعات جادة وفق رهط من الانتهازيين، هو فقط بالتسميات- وأمثالها بالقاموس السياسي وانعدام خبرتها بقدر ما في الأمر من حرمة شرعية في التعاطي مع الحشود متجاوزين الاعتبار الطائفي. إنهم بغير ذلك يفقدون الحق بالملك والسلطة والوصاية وولاية الأمر، هذا مشروع عقدي ومن يأمل بتغيير حقيقي فهو عليه مراجعة حساباته ولا يضع كل بيضه في سلة هذه الجماعة المؤقتة الغريبة عن ثقافات السوريين ولاسيما أهل إقليم الساحل السوري.

لم تذكر هذه الجماعات الجهادية الأممية وبعضها من السوريين المرتزقة لمصلحة تركيا التي جاءت تحرث “بلاد بني أمية” بالعدل والحريات أية مفردة سياسية أو سيسيولوجية في أية مقابلة تلفزيونية. بالتزامن، تحظى هذه المجموعات بقبول وتبرير من أوساط النخب الثورية وزمر من الجبناء استيقظ عندهم ديباجة الصوابية السياسية والانتهازية والنكران عندما جاء استحقاق الحرية والمواطنة وإثبات شعارات الثورة التي خرجوا من أجلها.

وصل الأمر بجماعات معارضة ليبرالية ويسارية وصحفيين وكتاب ثوريين نص كم أن يصادقوا لهذه المجموعة -لا ترتقي لوصفها بالسلطة بالمعنى السياسي- أن يصادقوا على “إعلان الدستور” من باب الإلزام باعتباره مؤقتا. حجة هذا الفريق أن في الأمر وجه براغماتي وضمن الممكن والمتاح، وكان ليفهم مني ومن كثر لو كان الموقف واضحا في الخصومة السياسية والوطنية عبر الخطاب والموقف، لكن السكوت والتجاهل والتبرير والتمييع كانت سمات الجمهور العام في سوريا غير المفيدة.

مع كل هذا وأكثر بكثير لا مجال لذكره في مدونة واحدة، تعتقد كارتيلات “الانتلجينسيا” الثورية وجيش من الناشطين الثوريين، من الأكثرية السنية وقلة من مشارب ثقافية وسياسية أنهم محصنون من النقد وقوائم العار ليتصرفوا بهذه الرعونة والصوابية بعكس ما كانوا يدافعون عنه على مدار سنوات. كيف يراد لأفراد الأقلية العلوية التي تضطهد حاليًا لتفهم هذا التصرف من التبريريين. هذا ليس إلا استغباء للناس ورهانا على ذاكرتهم المثقوبة باعتقادهم، في حين يجهدون مؤخرًا لإقناع جمهورهم أو تلك الكتل الصامتة بأن الشورى ديمقراطية. لا ديمقراطية في الشورى، فهي شورى أهل الحل والعقد والجاه. يعني شورى أهل الدين والدولة الحاكمية وكبار القوم من طبقة المال.

رعايا..

تنظر هذه المجموعة وأشباهها من الإسلام الراديكالي السلفي والجهادي والسياسي للإنسان باعتباره أحد أبناء الرعية في الدولة الإسلامية والأمة. فالمواطنة مفهوم غربي وبضاعة مشبوهة ومُكفّرة. الإنسان عبد من عباد الله في الأمة يرعى أمره حاكم ولي أمر، أمير، كما يحصل في سوريا التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقا، ففي كل مدينة ومنطقة هناك أمير يُحتَكم إليه قبل القضاء كما في الساحل السوري.

لم يذكر أحمد الشرع أبو محمد الجولاني سابقا المطلوب دوليًا للأنتربول، باعتباره في مقام رئاسة جمهورية دولة فاشلة أو أيا من أفراد “دولة” دمشق مفردة مواطن ومواطنة وفق ما شاهدت من محتوى مصور. فاللفظ الوارد على ألسنتهم، الناس، لن يقبلوا أن يتساوى الأفراد مع بعضهم حتى ضمن الملة نفسها إضافة إلى الانقسام الطبقي والمناطقي بين ريف-مدينة. مع ما سبق من أسباب أسست للقطيعة وانعدام الثقة، تأتي أكثرية ثورية ناشطة في الشأن العام يطلبون من العلويين والأقليات عمومًا أن يسلموا بهذا النموذج الدولاتي “المهيب والعصري” في الحكم، وأنه بالإمكان أن يثبت ويتطور وينكرون عليهم الرفض والحياد السلبي ويطعنون بوطنيتهم.

هكذا سوريا الجديدة من دمشق، كيف يجب أن يقاربها الفرد العلوي ويأمن إليها؟ الذي يريد كغيره الهجرة إلى التغيير الحقيقي في المواطنة والهجرة إلى الإنسانية والحضارة. نعم سمعت من يقول كنتو عايشيين عبيدا في عهد الأسد ما الضير أن تكونوا رعايا لفترة انتقالية وتعطوا السلطة الجديدة فرصة. لم يقل لنا أصحاب نظرية الفرصة والمهلة كيف سيثق السوريون وفي مقدمتهم العلويين وبقية الأقليات بعهد بدأ بممارسة الإبادة الجماعية التي حصلت وما تزال جارية كل يوم بالجملة والمفرق حتى وقت نشر هذا المحتوى. يُقتل ويخطف مواطنون من الطرقات ويسألك أن تهتم بالمشاركة في نشاطات منبثقة عن فضاءات دمشق قبل توقف القتل على الهوية!

على ما تقدم وهناك المزيد، إن مسار القطيعة مع دمشق أصبح واقعا. لقد بدأ الجميع، كل فرد واع وراشد، بإعادة صياغة هذه العلاقة أينما كان في سوريا التي عرفناها وعلى صعيد الجماعات السياسية الموجودة في إقليم الساحل وضمنا الجمهور العام. كل هذا يساهم في رسم ملامح عامة للهوية الإقليمية في سوريا سياسيًا أيا تكن السلطة المستقبلية، سواء مع هذه الحالية أو غيرها. هذا ما يمكن ملاحظته ولا يمكن إنكاره أو الرهان على أن الرأي العام في الشارع العلوي سيعود إلى الوراء. فما قبل 7 آذار ليس كما بعده هذه العبارة تسمعها وتقرأها في تلك الأوساط.

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x